الأربعاء، 16 مارس 2016

شجرة السنط العجوز

في مدخل حوش منزلنا في التقاء الشارع الضيق -الخاص بمنزلنا- بانفراجة الحوش تقبع مصطبة من الطوب اللبن مطلية بملاط من طين اسود مخلوط بعيدان صغيرة من قش الارز, ومقابلها تقف شجرة سنط بجذع غليظ قصير يخرج منه فرعان يحتضنان الفروع الاصغر المتتالية فوقهما, مشكِلتان - شجرة السنط والمصطبة- بوابة للحوش مسرح طفولتنا. يجلس جدي العجوز على المصطبة منذ استيقاظه في الصباح حتى مغيب الشمس, هكذا عهدناه كل يوم, خلا الايام التي يذهب فيها للمدينة لانجاز مهامه المالية. كنا نعرف تلك الايام من عصر اليوم السابق لها, تتناثر على المصطبة بجواره اوراق وكراسات صفراء قديمة يخشى عليها ويشتمنا بعبارات تتناول امهاتنا ان امتدت اليها يد احدنا عندما نلعب حوله, ويكثر زواره ذاك اليوم, فمن يأتي بحماره يربط لجامه بجذع الشجرة التي كان دائما تحتها مقطف من الجلد الرديء كالح اللون بأذنين متدليان على جانبيه مملوء بالعلف الذي كان يحرص جدي على تنبيه احدنا بملئه كلما رآه قارب ان يفرغ.
كانت شجرة السنط لا تحتاج رعاية احدنا كما كنا نفعل بأشجارنا الصغيرة التي نزرعها بأنفسنا, لذا لم نكن نعتبرها مجرد شجرة ولكنها فرد مستقل من افراد العائلة, لا يعيرها احد منا أي اهتمام هي فقط تقف مكانها كأنها جزء من القدر, حتى جدي لا يهتم بها سوى في حالتين, ان امتدت يد احدنا للحائها نقشره كي نصنع رسوماتنا الصغيرة على جذعها الضخم, وان صعدنا لأعلاها لنلتقط تجمعات الصمغ الذي تفرزه
كانت معاركنا الصغيرة معه حول محصول الصمغ تكثر في فصول الدراسة, تثيرنا تجمعاته في الصباح الباكر حين يغسله الندى ويلمع تحت اشعة الشمس كحبات الزجاج, ننتهز عدوم استيقاظ جدي ونلتقط الصمغ اثناء ذهابنا للمدرسة صباحا لنلصق كتبنا التي انفصلت عن بعضها. يوم الجمعة ينادي اول من ينزل الحوش منا, يصعد الشجرة تحت رعايته ونظره, يلتقط فقط مايشير به عليه, لا تمتد يده الى سوى مايقول, وحين ينزل يعطيه ما جمعه وان التصقت احدى القطع بثنايا ملابسه بفعل العمد او السهو ينهره جدي أن هناك قطعة ناقصة يابن الكلب. يضعه في زجاجات الدواء الصغيرة ويعالجه ببعض الماء الساخن ليصبح جاهز للاستخدام انما احتاجه او لاهداء لواحدة منها لعزيز لديه.
حينما قارب جدي التسعين تغيرت اشكال منازلنا, ارتفعت البنايات الصغيرة لأبي وأعمامي حول الحوش ولكن بقى جدي والحوش والمصطبة وشجرة السنط شهود صامتين على ماتغير, وان قلت فترات ظهور جدي على المصطبة تدريجيا, فأصبح ينام قيلولته بغرفته بدلا من نومه على المصطبة واستظلاله بالشجرة في القيلولات السابقة, ثم تأخر استيقاظه صباجا وطالت فترات القيلولة, وانتهت زياراته للمدينة وقل زواره ولكن بقى المقطف الجلدي قابعا تحت الشجرة وان بقى معظم الوقت فارغا. الى ان اصبح يقضي يومه بالغرفة مراقبا الشجرة من شرفته موزعا علينا تعليقاته البذيئة كلما مررنا من تحت الشرفة في طريقنا للذهاب او الاياب, وقلت التعليقات تدريجيا الى ان صمت جدي نهائيا باستثناء استجابته لتحيتنا او تحية بعض زائرينا.
استيقظت ذات صباح على صوت جلبة وميزت صوته شاتما ولاعنا بكل ماتعلم من الفاظ بذيئة على مدار التسعين عاما, فتحت الشرفة فوجدته يقف أمام شجرة السنط الممددة امامه متهاوية جذعها العجوز اليابس ينزف عصارة طازجة من اجزاء مقطوعة حديثا وشعاب جذور صغيرة رافعهة اصابعها نحو السماء . اسقطتها سيارة نقل مواد البناء وحرص عمي على ان يسرع السائق بالذهاب قبل استيقاظ جدي لانه لن يتركه يذهب
جلس يومه على المصطبة امامها, لم يشح بعينيه عنها, لاعنا كل من حياه ومن مر امامه بغير تحية, طالت فترات جلوس جدي على المصطبة مجددا ولكنه كان دائما وحيدا امام جثة الشجرة العجوز التي يبست وذهب البااقي من خضارها الى ان فوجئت يوما بأحدهم يستخدم بلطة ومنشار ويقطع الفروع الصغيرة ثم الكبيرة للجثة العجوز الراقدة في صمت وجدي يتابع عمل الرجل صامتا كالشجرة تماما. حييته فلم يرد, وفي المساء نظرت من النافذة فوجدت جذع الشجرة القصير واقفا مكانه القديم مسنودا بدعامات خشبية مقطوع الاذرع كتمثال رجل قصير لم يكتمل.
لم يطلب جدي من احدنا الاعتناء بوليده العجوز -وان فعل لم يكن ليلق استجابة- استبدل المقطف الجلدي بدلو صغير ينقل لها الماء وبعض الاسمدة الطبيعية ويختبر الدعامات بيديه ثم يطمئن ويحمل ثقله متهاديا الى ان يصل لغرفته يفتح الشرفة ويجلس صامتا. هكذا كل يوم
يوم ان مات جدي وبعدما عدنا من دفنه وقفنا واعمامي وأبي بجوار الجذع العجوز نتلقى تعازي الوافدين يتوسطنا كأنه أحدنا. وحين انتهى القاريء واتممنا الفاتحة مسحت وجهي بكفي التفتُ دون وعي للجذع الواقف امامنا, لمحت تحت الضوء الساطع لمصباح الفِراشة الكبير المعلق فوقه مباشرة وريقات خضراء لبرعم ينبت من اللحاء البني الجاف

الخميس، 30 أبريل 2015

لعنة الله على القابعين في الظل

باغتتني يده التي امتدت لعلبة السجائر الموضوعة امامي على الطاولة فأخذ سيجارة واشعلها وأعاد العلبة والولاعة لمكانهما دون اي كلمة, وهمً ان يذهب ولكنه التفت الىً وباغتني
      - انت مش مستني حد
نظرت اليه متسائلا
      - وما ادراك؟
جرَ مقعد بلاستيكي وجلس
      - اعلم هذا من عينيك
اممممم، قصة اخرى ربما لمدعيٍ او دخلة جديدة من دخلات التسول، ولكنه مسلي على كل حال
      - وماذا اخبرتك عيني
      - عيون الخائبين تشع بريق لا يلتقطه الا الخائبون
عجوز اشعل الشيب رأسه، مهندم الملبس مقارنة بمن في عمره، نحيل الجسد، قصير القامة، حليق الذقن
      - اعزمني على قهوة
ناديت صبي المقهى ليحضر له القهوة،فربما نجح في مداعبة فضولي
      - الفرائس للمقتحمين، وللنبلاء الفتات
انتبهتُ والتفتُ اليه مندهشا، ضغطة مفاجئة على زر فضولي، يالك من وغد، من انت ومن ارسلك؟
      - النبلاء الجبناء، المخلصون الخائفون، المحبون في صمت، البائسون، اليائسون، لا تعوضهم الحياه، المعركة والحرب والمجد والغنائم للمحاربين، لا لحراس المتاع، القابعون في الظل يصابون بالكساح، صوتهم لا يتعدى أذانهم، صراخهم لا يشق إلا صدورهم، اصدقاء رائعون، ولكنهم غير جديرين بالحب، مجالسهم استراحات قصيرة لمن اجهدهم عناء الطريق
احضر الصبي القهوة وانصرف
      - اسمك ايه ياحاج
      - فارس
وضحك فاغرا فمه الفارغ من الاسنان، ضحك حتى دمعت عيناه
      - عاشت الاسامي ياعم فارس
      - سأعطيك نصيحة مقابل القهوة وسيجارة اخرى
مددت يدي له بالسيجارة، وضعها في فمه فأشعلتها له وقال:
      - انت ايضا نبيل أحمق، هذا ما رأيته في عينيك، فارس آخر ترجل عن فرسه حتى لا يجهدها، ولكن الحقيقة انك فاشل، تخبيء جبنك خلف نبلك، لا بأس فطالما وجد الأوغاد لابد من وجود النبلاء الذين يتنازلون لهم بخيبة عن اماكنهم، ليست هذه نصيحتي، ولكن ان تركت فرسك لآخر فلا تسير في ظلها، الفرس لا تشعر سوى براكبها، ولن تستطيع رعايتها ابدا، ان ترجلت عنها، او لم تكفيك شجاعتك عن الاقتراب منها، فاتركها واذهب بعيدا وحيدا، فلا شيء في الحياة اصعب من نظرة فارس لفرسه تموء تحت جسد رجل آخر.
لمعت في عينيه دموع فانتفض ونهض ذاهبا
      - القهوة ياعم فارس
      - اشربها انت يا ابن الكلب ياخول
 ابتعد قليلا ثم التفت ناحيتي وبصق على الارض واندس وسط الزحام

الأحد، 29 مارس 2015

اكليل

حان يوم العودة للقاهرة فأستبقت بلابل الصباح، اعدت كوبين من القهوة وذهبت توقظه:
-صباح الخير حبيبي، هيا استيقظ فسنبيت اليوم ببيتنا
- لم العجل، مازال الوقت باكرا، دعينا ننام جيدا فسيكون يوما مرهقا
-لقد نمنا جيدا، هيا ودع كسلك، اليوم المرهق سيمر ان كنت نشيطا لا بالنوم الكثير
-انشطي كما تحبين ودعيني اكمل نومي، ﻻزالت سبع ساعات على موعد الطائرة، والمسافة للمطار ﻻ تتعدى النصف ساعة، وقد اعددنا كل شيء منذ الأمس
التقطت سيجارة من سجائره، شربت دخانها في صمت مع القهوة وذهبت فأيقظت الطفلين، اعدتهما للسفر متهللين فاستيقظ على صوتهما.
-اصنع لك قهوة؟
-سأشرب ما أعددتِ
-لكنها باردة
-أشربها هكذا دائما
***
انزل الحقائب من الليموزين وسار بجوارها في صمت وتقافز الطفلان امامهما
-مالك؟
-ﻻ شيء
-انتظر
التقطت غصن من شجيرة خضراء واشارت الى رأسه فانحنى اليها فأحاطت رأسه بالغصن كالتاج، فابتسم:
-صغير
-بل رأسك الكبير، اتريده حقا؟
-لم ﻻ؟
-الا تخجل من اكليل مضحك كهذا أمام الناس؟
-فليذهب الناس حيث ارادوا
التقطت اخرا فانحنى وساعدها فأحكمته حول رأسه، قبل يدها واحتضنها بكفه فاحمرت وجنتاها وابتسمت
-حين اغمضت عيني تلك الدقائق رأيت جدي واخبرني "اذهب للمطار فسيجد الاطفال مكان للعب واجلس مع زوجتك فعندها الكثير لتخبرك اباه"

السبت، 8 نوفمبر 2014

لا أحب الورد



انا شخص جيد, أفعل كل ما يعمله الاشخاص الجيدون, واتمتع بكل صفاتهم, سوي انني لا أحب الورد, اظن ان هذا لا يخرجني من زمرة الجيدين, ففقدان صفة واحدة من صفاة الجماعة لا تعني انني لست منهم, فأنا اتمتع بكل صفاتهم, ولكني أري الورد زهور متنطعة نعطيها حياتها وحين تموت لا تترك سوي سيقان ذبلة يصعب التخلص منها

ولكن هذا لا ينقض كوني جيد, أأخبرك بشيء؟  فلتطلق عليً "جيد لا يحب الورد". اظن ان هذا عادل لي ولك

الثلاثاء، 2 سبتمبر 2014

احكِ لي حكاية



وضح رأسه علي صدرها وأحاط خصرها بذراعه, تحيط رأسه بيديها وتعبث بشعره, تقص عليه حكاية "الفتى والجنية", تعلم ما به دون ان يخبرها؛ ولذا أحبها, ينساب صوتها الهاديء بين أوصاله, يفعل فعل الماء البارد بجسده في ليل اغسطس.
أتدرين ياحبيبتي؟! الموت لم يعد يحزنني, الموت كائن مزعج, كالصداع المزمن, حين نعتاده يؤنس وحدتنا, قد نصادقه, صداقة الضحية لجلاده, الموت يا حبيبتي لم يعد له جلال, اصبح الموت مجموعة من الأوراق, واحدة تثبت وجوده, وأخري تثبت مكانه, وثالثة للمواريث, وفي الأخير تبقي فقط عبارة "هنا يرقد فلان"
تعلمين ياحبيبتي أن الله وهبني نعمة البكاء, وحين اهدرتها في غير مكانها استردها, فالله يا حبيبتي يسترد نعمه منًا حينما نهدرها.. احكِ يا حبيبتي, اكملي حكايتك عن ذاك الفتى وجنيته, احكِ واجعلي فتاكِ يبكي, اجعليه يحزن, اجعليه يتألم حين يموت احبابه, اتركيه في ذاك العصر حين كانوا يبكون موتاهم, حين كان الفتى ينتحب لفقد حبيبته, اجعليه يضع وردة علي قبرها كل صباح, ضعي علي لسانه قصيدة تذرف دموعنا عليه وعلي جنيته.
اتدرين ياحبيبتي كم اشتاق لصدرك اسند رأسي عليه ربما استطيع البكاء؟!... ولكنك ايضا تعلمين انك كالفتى وجنيته, توجدون فقط في الزمن العتيق, توجدون فقط في الحكايات

الثلاثاء، 26 أغسطس 2014

ممنوع لذويٍ الروح

أن تتحول تدريجيا دون أن تشعر لذاك الانسان الذي يشع كآبة لمن حوله, يري الدنيا بمنظور حيادي, كل ما حوله مثل عدمه, ذاكرتك عبء ثقيل يستعصي حمله, احلامك للمستقبل تتحول ببطيء للون ابيض كثيف مزعج, كل محاولاتك العبثية في تحييد حزنك التي كانت تجدي نفعا في السابق؛ يصبح التفكير فيها كمداً.
أن تصبح عبارة "الحمد لله" واهية علي شفتيك لا تتخطاهما, تتباعد فترات التواصل مع الأهل والاصدقاء, ان تصبح خطواتك العجلة دائما؛ متثاقلة "كالوجيٌ الوحلُ" يتساقط حماسك في كل خطوة تخطوها حتي يذبل فتتوقف, لا تنظر للخلف ولا للأمام, تتطلع للافق, تريد ان تخبر من يسكن الأعالي بالكثير ولكنك تصمت.
حين يصمت عقلك ويتصلد القلب, لا حزن يؤثر ولا فرح, فتنعدم شهيتك للطعام وتمكث اياما تتغذي علي الدخان, حين ينحل الجسد ويتبلد الشعور بكل من حولك.
حين يصبح صوت هاتفك اسوأ من كوابيسك, وحين تسمع اسمك بصوت احدهم فتتمتم "لبتني كنت نسيا
ان تخرج حزنك في الكتابة فلا تستطيع فتصمت 

الاثنين، 28 يوليو 2014

قصر المعصوبين


يدخل الصبية الذين تخطوا سن الخامسة عشر باب القصر لأول مرة يحملون كم من الرهبة والتشويق والاحلام عما سمعوه طوال حياتهم عما هو موجود بداخل ذلك القصر. يقف علي الباب حارسان ضخام الجسد يحجبون الباب بأجسادهم. يضعون عصابات علي اعين كل من يدخل؛ فلا يدخل احد باب القصر بدون الغمامة.
-        اهلا بكم اعضاء جدد في رعاية صاحب القصر
يسمع الجميع صوت لا يتبينون مصدره.
-       -    فليمسك كل منكم في كتف من امامه
وامسك خادم القصر ذو العصابة الغليظة علي عينيه بيد اول صبي في الصف وسار حتي وصل للقاعة المنشودة, رائحة نفاذة تخترق الانوف.
-          هنا داخل هذه القاعة نقدم جميعا فروض الولاء للسيد صاحب القصر حتي يشملنا وكل سكان القرية برعايته وحمايته, صاحب القصر هو من يدافع عن قريتنا ضد هجمات الاعداء, هو من يقدم مشورته لمن يطلبها, اطلبوا منه دائما ما تحتاجون, من له مظلمة من اخيه فليتقدم بها.

-          اين صاحب القصر ياسيدي؟

-          موجود في قصره, لا يراه أحد

-          نريد ان نراه

-          لا يري احد صاحب القصر ويعيش

-          ولكن كيف يرد علي مطالبنا

-          ستعرف كل شيء في وقته, اطلب ما تشاء وسيأتيكم الرد من خلال خادم صاحب القصر

-          ومن خادمه؟

-          ورثتُ خدمة سيدي صاحب القصر عن ابي واجدادي من قبله

-          اذن فأنت وسيلة اتصالنا بصاحب القصر

-          نعم انا كذلك, خصًني سيدي بخدمته

-          ولكن لمَ العصابات علي اعيننا, لمَ لا يريد صاحب القصر ان نراه

-          هذه العصابات لحمايتنا, لا أحد يري صاحب القصر ويعيش, هكذا اخبرنا ونحن نصدق كل ما يخبرنا به
..........................................
خرج الصبية من باب القصر وسلموا عصاباتهم للحراس وذهبوا للًهو كما اعتادوا

-          هل رأيت ما بداخل القصر من نعيم؟ هل شممت تلك الرائحة العجيبة؟

-          نعم, ولكني احقد علي ذاك الخادم الذي يسكن هناك وحده, لمَ لا نسكن جميعا داخل القصر ونستمتع بما رأيناه بالداخل.

-          اصمت! لا ينبغي ان تتكلم هكذا, صاحب القصر اختار خادمه ولا ينبغي ان نعترض, لا تخبر احدا بذلك ثانية, سيعلم صاحب القصر ويكون جزائك الموت, الم تسمع ما قاله الخادم اليوم؟

-          بلي, بلي, قد سمعت, ولكني اخبركم فقط بما دار في عقلي, هل يحاسبنا صاحب القصر عما نفكر به؟ نحن حديثي العهد بالقصر ويجب ان نفكر حتي نعلم حكمته, سؤالي ليس للتشكيك في كلمة السيد, ولكن حتي يطمأن قلبي
في جانب منفرد يجلس "عابد" احد الصبية يتابع الحديث في صمت, وفجأة قاطعهم

-          عن اي نعيم تتحدثون؟ هل رأي احدكم شيئا؟ انا لم أرى نعيما ولا حدائق وفاكهة, كل ما سمعته هو ما أخبرنا به خادم القصر

-          اصمت يا "عابد", اصمت لا تكرر هذا الكلام, سيغضب عليك صاحب القصر وخادمه, كيف تشكك فيما يقولون, القرية كلها تعلم ان خادم القصر يستمد حديثه من صاحب القصر, ويعلمون ان صاحب القصر لا يكذب.

-          اذا كان لا يكذب لمَ لا يسمح لنا برؤيته؟

-          لحمايتنا كما اخبرنا الخادم, لم يري احد صاحب القصر وعاش

-          وهل رآه احد ومات؟

-          نعم كثيرون رأوه وماتوا في التو, هكذا اخبرنا الخادم, وهكذا اخبرني ابي اكثر من مرة

-          وهل رأي اباك من مات ؟

-          اخبره ابوه, وجدي لم يكذب مطلقا
................................................
في الاسبوع التالي وفي نفس الميعاد ذهب الصبية لباب القصر ليقدموا فروض الطاعة لصاحب القصر كما اعتاد اهل القرية كل اسبوع

-          سنكمل اليوم وصف القصر وحدائقه ومنافعه لكل اهل القرية, فصاحب القصر هو من بنى تلك القرية التي نعيش فيها, له الفضل في رفاهيتنا عمًن حولنا, نلوذ اليه في الشدائد, ونطلب منه الخيرات, ولم يطلب منا شيئا في مقابل ذلك؛ سوى ان نطيعه دائما ولا نعصي أوامره.

-          سيدي, هل يعني ذلك ان صاحب القصر يعيش منذ ان بُنيت القرية؟ هل يعني ذلك ان عمره أكثر من مائة عام؟

-          من انت يابنيً

-          اسمي "عابد"

-          اسمع يا "عابد", انت لازلتَ صغيرا, لذلك سيسامحك السيد عمًا تفوهت به, ولكن احذر انت تكرر ذلك, فكلامك ينطوي علي شك لا ينبغي أن يكون في كلام السيد أو خادمه

-          ولكن...

-          ليس هناك لكن, في المرة القادمة سيكون عقابك بسوء فعلتك, اعتذر عما بدر منك والسيد سيسامحك, فالسيد رحيم القلب يصفح دائما للمرة الأولي.

-          أسف سيدي

-          نكتفي اليوم بهذا القدر, نلتقي في الاسبوع القادم
...................................................
في غرفة ملحقة بحديقة القصر الخارجية حيث يلتقي الخادم ببصاصينه

-          أري انك لا تقومون بعملكم على أكمل وجه

-          لمَ ذلك سيدي, نفعل ما تأمرنا به دائما

-          يا بنيً أنا لا أؤمر بشيء, ما انا سوي خادم لسيدي, اخبركم بأوامره, هو من يأمر وينهي

-          كلنا في خدمة سيدنا وخدمتك سيدي, ولكننا نريد ان نعرف ما بدر منًا

-          بعض الصبية يتفوهون بما لا يليق بمقام السيد, لم يحدث هذا منذ خدمتُ القصر وصاحبه

-          عفوه وعفوك سيدي, اخبرنا من هم وسنقوم بما يجب

-          لا, صبيٌ صغير لا يعي ما قال, وقد أمًنه السيد ولا تٌرد كلمته, وليس الخوف منه, لابد وانه سمع ما قال من آخرين, أريد متابعة جيدة لما يحدث, انتشروا في التجمعات بحرص, يريد السيد معرفة كل ما يدور خلف الجدران, انشروا ما أخبرتكم به عن سيدكم, اخبروا الناس بحقيقته, اختاركم السيد بعنايته لتقوموا بمهامكم, وُكلت اليكم حماية الناس من انفسهم, وانتم جديرين بهذا, سيساعدكم السيد بحكمته, اطلبوها وقتما تشائون.
............................................
في ملهى الصبية مجددا

-          ماذا فعلت يا "عابد", هل جننت؟ هل تشكك في كلمات السيد وخادمه؟ الا تخشي ما قد يحدث, ألم تسمع بمن شككوا في السيد من قبل؟

-          انظر يا "ساهر", انت صديق دربي منذ كنا اطفال, سأخبرك بما في صدري ولكن اجعل ذلك سرنا

-          لا يا"عابد", لا تخبرني بشيء, لا تحملني ما لا أحتمل, اجعل ما في صدرك لك وحدك ارجوك

-          اذن دعنا نتفق, سأخبرك ولا أحد بيننا الآن, فأن علم السيد بما أخبرتك فهو السيد كما يخبرونا, وان لم يعلم فلنرى ما سيحدث.

-          اذن تعالَ فوق شجرة البلوط مهد طفولتنا, هناك لا يسمعنا سوي الطير.

-          هيا بنا
.................................................
في ملتقي الصبية الاسبوعي داخل القصر ومع خادمه وبعد انتهاء الخادم من تذكيرهم المستمر بفضل القصر وصاحبه علي القرية وسكانها

-          هل لأحد منكم سؤال؟

-          نعم سيدي

-          من انت يا بنيً, الست "عابدا"؟

-          بلي سيدي, انا "عابد"

-          اسأل ما شئت, يبدو انك سيكون لك شأن كبير معنا, صاحب القصر يحب المتيقظين دائما

-          سيدي, في الاسبوع الماضي أخبرت صديقي ببعض الأمور تخص القصر وصاحبه, هل ازعجت تلك الامور صاحب القصر؟

-          ماذا اخبرت صديقك يابنيً

-          الم يخبرك صاحب القصر؟

-          لا يخبرني كل شيء يابنيً, يخبرني فقط بما يريد

-          اذن فلم يكن ما أخبرت به صديقي بالأمر المهم, حسنا سيدي, لا بأس

-          من هو صديقك الذي أخبرته يا"عابد"

-          اسأل سيدك, فهو يعلم كل شيء.

-          تأدب ياولد حينما تدعو السيد, فهو سيدك وسيدي وسيدنا جميعا, ابن من انت في القرية؟

-          فليخبرك سيدك, فهو يعلم بكل تأكيد

-          تخطت وقاحتك المعهود, لابد من استشارة السيد في أمرك, فلتصمتوا حتي ارجع

خرج الخادم واغلق باب القاعة من الخارج, دقائق ثم عاد

-          اذهبوا الآن, واخبروا ابائكم بأجتماع لكل أهل القرية في الغد, اخبرني السيد بأمر ذلك الملعون, وسأعلن الأمر أمام كل القرية في صباح الغد, وأما انت أيها الملعون ستمكث هنا معي حتي ذلك الموعد.
تسمر الصبية قليلا فنهرهم الخادم

-          هيا اذهبوا يا ملاعين.
صاح "عابد"

-          انتظروا, أين هو السيد, يجب ان اقدم مظلمتي له, انا أعلم انه موجود, ولكني لا أثق بخادمه هذا, اريد ان أسمع حكمه بنفسي.

أدرك الخادم تأزم الموقف فصاح مزبدا

-          اصمت يا ملعون, لا أحد يري السيد ولا أحد يحادثه, اتريد أن تعلم حكمه عليك, لقد حكم عليك بالموت, ومن لن يذهب الآن منكم سيكون مصيره الموت معه
شهق الصبية وتجمدت اطرافهم

-          الموت!! لا, "عابد" لا يستحق الموت, "عابد" لن يموت

-          من انت ايها الملعون, ستموت انت ايضا

-          "عابد" لا يستحق الموت

-          وانت ستموت, جميعكم ستموتون غدا, بل الآن, ستموتون جميعا الآن.
علا صراخ "عابد" ليغطي علي ثورة الجميع

-          انتظروا جميعا, انظروا, سأخبركم بشيء, سأخلع عصابة عينيً الآن, لأري السيد واقدم له مظلمتي

-          ستموت ياملعون
وصاح كل الصبية في هرج ومرج

-          لا يا"عابد", ستموت, ستموت

-          سأموت غدا علي كل حال, وها هي الغمامة, لقد ازلتها عن عينيً, ولم أمت, الم اخبركم انه كذاب, الم اخبرك بذلك يا "ساهر"؟ اتصدقني الآن؟

-          لا تصدقوه, لم يفعل شيء, لم يخلع شيء, لو كان خلعها لكان قد مات الآن, أنسيتم كلام السيد؟

-          صدقني يا "ساهر", انت تعلم اني لا اكذب, لقد ازلت الغممامة عن عينيً, اتعلم ماذا أري؟ لا شيء مما قاله الكذاب, لا شيء, لا يوجد صاحب للقصر, لا وجود للحدائق والفاكهة, ليس سوي قصر مهجور مليء بالحشرات والعناكب, وكيف يكون غير ذلك وكل من يدخلونه عميان.

-          اصمت يا "عابد" ارجوك, لا تقل ذلك, سينتقم منك السيد اشد انتقام.

-          ألا تصدقني يا "ساهر"؟ انظر انت ايضا, افعل مثلما فعلت, تعرف علي حقيقة المخادعين, هيا جميعا اقشعوا الغشاوة عن عيونكم, اكشفوا زيف الكذابين, ليس هناك سوي خواء, لا يوجد شيء مما تنتظرون.

-          اصمت يا "عابد", تريدني أن اموت؟ تريدني ان اخلع عصابتي حتي لا تموت وحدك؟ اذهب يا صديقي فلستً صديقي بعد.
صاح الخادم في هياج شديد

-          امسكوا ذاك الملعون, اوثقوه, اخرجوا به لحديقة القصر, سيذبح الملعون هذه الليلة, لن ننتظر للصباح والا ستحل لعنة صاحب القصر علي القرية كلها, فلم يحدث ان تطاول أحد علي صاحب القرية هكذا من قبل, اخرجوا به قبل الظلام.
............................................
في الاسبوع التالي في ميعاد اللقاء ذهب الصبية لباب القصر, ولم يكن بينهم "عابد", بينما كان "ساهر" فوق شجرة البلوط وحده يفكر فيما حدث.